دراسات ثورية
 

الانطلاقة
 

استراتيجية الثورة حتى النصر
 

 


لم تكن الرصاصات التي انطلقت في الفاتح من يناير عام 1965 مجرد اعلان عن ميلاد حركة ثورية مسلحة فحسب، وانما كانت انقلابا في المفاهيم النضالية التي سادت الوطن العربي كله منذ عام 1948 الذي اصطلح على تسميته عام النكبة. كانت المفاهيم النضالية السائدة تنطلق من تحليلات احادية الجانب، ترتكز على الواقع العربي المجزأ ولا تكلف خاطرها عناء البحث في اعماق مفهوم الكيان الصهيوني ووجوده على ارض فلسطين، والابعاد الاستعمارية والامبريالية التي فرضت وجوده كضرورة حتمية لتحقيق مصالحها. لهذا كانت استراتيجية الوحدة العربية طريق تحرير فلسطين، والحرب النظامية الخاطفة، هما الشعاران الاساسيان في سياسات الدول والاحزاب والحركات والقوى السياسية، ناهيك عن تلك القوى التي كانت ترى ان الوحدة السلمية وقيام الدولة السلمية هي الشرط الضروري للتحرير.
وعلى الرغم من وقوع عبء النكبة اساسا على الشعب الفلسطيني، الا ان التطلع نحو الوطن وتحريره كان يشد الشباب الفلسطيني نحو الانتماء الذي يعتقد ان فلسطين من خلاله اقرب. وكانت النتيجة ان توزعت طاقات الشعب الفلسطيني لولاءات قومية او دينية او اممية متناحرة. ومع نهوض الناصرية واستقطابها الاكبر للشباب الفلسطيني والعربي خاصة بعد تبنيها لاسلوب الكفاح المسلح، وتنظيمها لمجموعات الفدائيين في قطاع غزة، بدأت ملامح الطريق إلى فلسطين تزاوج بين النضال من اجل الوحدة والنضال من اجل فلسطين، وتربط بينهما بعلاقة جدلية. وعلى الرغم من الهزيمة التي مني بها العدوان الثلاثي عام 1956، الا ان النتيجة المباشرة (فلسطينيا) لهذا العدوان كان سقوط قطاع غزة تحت الاحتلال الصهيوني، وبداية المواجهة المباشرة بين جماهير الشعب الفلسطينية في قطاع غزة وبين قوات الاحتلال الصهيوني. ولئن كان انسحاب العدو الصهيوني من سيناء وقطاع غزة عام 1957 قد تم دونما تطبيع او توقيع على اتفاق استسلام كما جرى في كامب ديفيد، الا ان الانسحاب فرض توقف الاعمال الفدائية من قطاع غزة، وجعل مهمة الحفاظ على الامن فيه منوطة بالحاكم العسكري المصري.
اصبح واضحا امام الشعب الفلسطيني في كل اماكن تواجده ان قضية فلسطين تحولت إلى قضية حدود بين الكيان الصهيوني والانظمة العربية. وانه ما لم يتول الشعب الفلسطيني قضيته الوطنية بنفسه، فانها ستظل على مستوى الانظمة العربية قضية مزايدات وحدود، وعلى مستوى الامم المتحدة قضية لاجئين وتموين. كان جوهر الصراع يضيع في ظلال مظاهره الكثيرة. فاسم فلسطين، قد قرر الامبرياليون والصهاينة شطبه عن الوجود ارضا وشعبا ليتسنى لهم تكريس وجود النقيض المادي ارضا وشعبا تحت اسم "اسرائيل". والواقع العربي التقى في مرحلة ترديه، مع متطلبات الهدف الامبريالي الصهيوني في مرحلة نهوضه، على تدمير الكيانية الفلسطينية. فتم تشتيت الشعب الفلسطيني بين الاحتلال في الجليل والمثلث والنقب، وبين الاردن في الضفة الغربية، ومصر في قطاع غزة، والمخيمات التي انتشرت في لبنان وسوريا والضفة والقطاع. ناهيك عن الشتات الطوعي الذي تطلبه البحث عن لقمة العيش. اما الارض الفلسطينية فقد سطا الاحتلال الصهيوني على الجزء الاكبر منها واعلن قيام دولته "اسرائيل" عليه. وتم ضم الضفة الغربية لتصبح جزءا من المملكة الاردنية الهاشمية. كما ضمت سوريا منطقة الحمة والحق قطاع غزة بمصر اداريا.
هكذا كان لابد لنداء الحياة ان ينطلق باعثا اسم فلسطين التي ضيعتها المساومات. وكان لا بد من تحرك الشعب الفلسطيني نفسه. وهكذا كان ميلاد حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) قبل اربعة وثلاثين عاما، ضرورة تاريخية فرضتها متطلبات الوجود والنضال للشعب العربي الفلسطيني.
كان على (فتح) ان تستوعب دروس عشر سنوات من الركود والضياع الفلسطيني لتحدد بوضوح وعلى اساس علمي، جوهر الصراع في المنطقة، وموقع فلسطين في هذا الصراع، انطلاقا من منهج ثوري في المعرفة، يعتمد الشمولية المتطورة اساسا لدراسة الواقع، بعيدا عن النظريات الاحادية الجانب، والقاصرة عن الفهم المتطور للاحداث المستقبلية. وحين يتحدد جوهر الصراع تتحدد طبيعته ومظاهره واطرافه واهداف كل طرف. وهكذا حددت (فتح) نظريتها الثورية بمبادئها واهدافها واساليبها. واعلنت في عام 1958 بيان حركتنا وهيكل البناء الثوري اللذين حددا بوضوح استراتيجية الانطلاقة الثورية المسلحة. كما حددت الركائز الاساسية الثلاثة التي تقوم عليها هذه الاستراتيجية... استراتيجية الانطلاقة... واستراتيجية الثورة حتى النصر.
الركيزة الاولى: هي الاستقلالية وعدم الخضوع او التبعية او التوجيه من اية جهة الا الشعب الفلسطيني. كان واضحا ان ما اعلنته (فتح) هو حالة تمرد على واقع الهيمنة والسيطرة التي حاول كل نظام او حزب ان يفرضها على قطاع من ابناء الشعب الفلسطيني، انطلاقا من التوجه نحو اهداف تخدم مصلحة الامن الاقليمي على حساب الامن القومي المتمثل خطره الاول بوجود الكيان الصهيوني. وعلى الرغم من تهمة الاقليمية التي حاولوا الصاقها ب (فتح). الا ان جوهر الصراع كان يقتضي ان يوضع الحصان امام العربة وليس العكس. وكان يقتضي ان تكون القطرية الفلسطينية طليعة النضال القومي العربي الشامل، لأنها تمثل النقيض المادي للكيان الصهيوني. كان على العرب جميعا ان يفهموا ان اسم فلسطين وكيانها الشرعي، ارضا وشعبا، هو اهم الاسلحة القومية لمواجهة السلاح الامبريالي المصلت على رقاب الامة العربية كلها، وهو سيف الكيان الصهيوني سيف "اسرائيل".
الركيزة الثانية: وهي الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في ارض فلسطين وحقوقه الثابتة غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير واقامة دولته الديمقراطية المستقلة وعدم الاعتراف بحق الكيان الصهيوني في الوجود على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
الركيزة الثالثة: وهي ان الثورة الشعبية المسلحة هي الطريق الحتمي والوحيد لتحرير فلسطين، بكل ما تحمله كلمة الثورة من اشكال متعددة للنضال، على مستويات النضال الجماهيري والتنظيمي والعسكري، وما يحققه التكامل الفعال بين كل هذه الاشكال لضمان استمرار النضال حتى تحقيق النصر. وهي ثورة شعبية لأنها تعتمد اساسا على الشعب وعلى خط الجماهير النضالي الطويل الامد، وما يعنيه من تعبئة كافة الطاقات الشعبية من اجل تغيير الواقع الفاسد المتمثل بوجود الكيان الصهيوني تغيير جذريا. وهي ثورة شعبية مسلحة لان الكفاح المسلح فيها استراتيجية وليس تكتيكا ولن يتوقف هذا الكفاح الا بتحقيق اهداف الشعب الفلسطيني.. انها استراتيجية الثورة حتى النصر. على هذه الركائز شيدت (فتح) هيكلها الثوري، وبدأت مرحلة نضالها السياسي والتنظيمي والاعلامي والجماهير، الذي استمر سبع سنوات قبل ان يتقرر موعد الانطلاقة في الفاتح من يناير-كانون ثاني 1965. كانت تلك اللحظة التاريخية التي فصلت بين الزناد والاصبع قد تحققت فيها إستراتيجية تكامل الركائز الاساسية للثورة المسلحة. فالارادة فلسطينية غير تابعة ولا خاضعة او موجهة. والهدف تحرير فلسطين وتحقيق كامل الاهداف الوطنية للشعب الفلسطيني. والاسلوب كفاح شعبي مسلح ينطلق من فوهة بندقية موجهة بالخط السياسي الوطني الثوري الذي اعلنته فتح. وبالخط الجماهيري الذي يضع مهمة الطليعة الثورية على الشعب الفلسطيني كأساس، وعلى جماهير الامة العربية كشريك في المعركة والمصير. وبالخط الكفاحي المناضل والكفاح المسلح المستمر بالثورة حتى النصر.
كانت المفاجأة مذهلة على كافة المستويات. فالانظمة العربية كانت قد اعلنت قرارها بانشاء كيان فلسطيني يجمع ارادة شعب فلسطين، وبقيام هيئة تطالب بحقوقه، وذلك في مؤتمر القمة العربي الاول عام 1964. ثم رحبت بقيام منظمة التحرير الفلسطينية، واعلنت عن تشكيل جيش التحرير الفلسطيني في مؤتمر القمة العربي الثاني في نفس العام. كان جيش التحرير الفلسطيني يتبع عمليا هيئة اركان الدولة التي يتواجد فيها. ولذلك فوجئت الانظمة العربية بانطلاقة عمل مسلح وممارسة عسكرية مباشرة وعلى الارض دون اخذ الاذن منها. فالاستقلالية كانت خطرا تخشاه الانظمة التي كانت تريد للفلسطيني ان يكون تابعا مباشرا او جرما يدور في فلك مخابراتها.
ومن هنا كانت الهجمة على الانطلاقة قاسية متعسفة ومتجنية. وبدأت الاصوات تتهم قوات العاصفة التي اعلنت البلاغ الاول في 1 يناير-كانون ثاني 1965 بان ورائها حلف السنتو. والبعض الصق علاقتها بالاخوان المسلمين. وبدأ حسنو النية يعارضون الانطلاقة لتجاوزها المبادئ الضرورية للعمل الناجح الذي يتطلب الانطلاق في الوقت المناسب. وطرحوا مقولة التوقيت، والى جانبها طرحوا مقولة التنسيق الشامل كشرط ضروري لنجاح العمل المسلح. اما سيئو النية فقد اتهموا قوات العاصفة بالعمل لتوريط الانظمة العربية في معركة هي ليست مؤهلة لخوضها. وكان الذين يلعنون ظلام الاحتلال اكثر من نجوم السماء. ولكن احدا منهم لم يضء شمعة واحدة. وعندما اضاءت العاصفة هذه الشمعة عملوا على إطفائها.


بسم الله الرحمن الرحيم
"ويأبى الله الا ان يتــــــــــــــــــــــــــــم نوره ولو كــــــــــــــــــــــــــــــره الكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافرون(32)"
سورة التوبة
صدق الله العظيم


اما الامبرياليون والصهاينة، فقد كانوا يدركون خطورة هذا التحرك خصوصا بعد اكتشافهم حقيقة استقلاليته وعدم خضوعه لاي من الانظمة العربية. كان بروز الشخصية الفلسطينية في المجال العربي والدولي من جديد هو اكثر ما يزعج حكام الكيان الصهيوني، الذين بنوا استراتيجيتهم على ان الجيل الاول سيموت، وان الجيل الثاني سينسى. فاذا بفلسطين تتجدد كالعنقاء تنتفض من تحت الرماد لتعلن الثورة حتى النصر.
كان المشروع الصهيوني قد زرع على ارض فلسطين من اجل تحقيق استراتيجية التوتر الدائم، التي تبنتها الامبريالية في مرحلة تصديها لحركات التحرر الوطني. وهذه الاستراتيجية تستهدف تكريس التجزئة والتخلف والتبعية في الوطني العربي، وذلك عبر تكريس التفريق بين الانظمة والشعوب وضمان تبعية حكمها للسياسة الامبريالية، وحرمانها من تطوير مجتمعاتها وجيوشها واقتصادها، واستثمار مواردها الطبيعية بما يخدم مصلحة الشعب والامة على المستويين القطري والقومي. واصبح البحث عن وسائل تأمين الامن الاقليمي يشغل بال الانظمة ويجعلها تعيش تحت وطأة الخوف من الكيان الصهيوني ومن يقف وراء الكيان الصهيوني. كان تأثير استراتيجية التوتر الدائم واضحا على كل الانظمة العربية. فلقد سيطرت النزعة الاقليمية لدرجة ان الاحزاب القومية صارت تتحول إلى اقليمية. واصبحت المهمات الاساسية لهذه الانظمة ترتكز على حماية ذاتها. وكان هذا الموقف يؤمن عوامل الامان والاطمئنان التي تضمن مستقبل الكيان الصهيوني ووجوده من جهة، وتأديته لمهمته الامبريالية من جهة اخرى. اما وقد انطلقت القوة الفلسطينية المستقلة التي تبعث طاقة الحركة في الجماهير العربية فتحول طاقاتها الكامنة إلى قوة جبارة فاعلة فان هذا يعني انطلاق النقيض المدمر للكيان الصهيوني، ولكل المخططات الامبريالية واطماعها في المنطقة العربية. لهذا كان قرار التصدي لهذه الظاهرة حاسما يتطلب الرد التأديبي السريع ضد كل المناطق التي ينطلق منها العمل الفدائي او تتواجد فيه خلاياه السرية. كان هدف الرد المباشر هو تحميل الانظمة العربية في دول الطوق مسؤولية القضاء على ظاهرة العمل الفدائي. وتحويل هذا العمل من خطر ومشكلة للكيان الصهيوني، إلى خطر ومشكلة عربية. وبذلك تتحول مهمة حماية حدود الكيان الصهيوني إلى الجيوش العربية في دول الطوق. وتلاحقت الغارات والهجمات الصهيونية ضد مواقع حدودية في الضفة الغربية وقطاع غزة وسوريا، وامتلأت سجون الانظمة بالمناضلين، ولكن ركيزة الاستقلالية وتأمين سلامتها كان الضمانة الاساسية للاستمرار بالعمل.
وكان لابد للكيان الصهيوني وقد عجزت الانظمة ان تضع حدا للعمل الفدائي ان تقوم بنفسها بعدوانها الشامل عام 1967. وقد كرس هذا العدوان بصورة لا تقبل الشك طبيعة الامبريالية الامريكية المرتبطة بالكيان الصهيوني وطبيعة التردي الفاضح لواقع استعدادات الانظمة العربية الهجومية والدفاعية على حد سواء. ولئن كان العدوان يستهدف ضرب الفكرة الفلسطينية المستقلة في مهدها، فانه كان ايضا يستهدف ضرب الروح القومية المستقلة المتوثبة التي بعثها الرئيس جمال عبد الناصر في مصر لتسليمها بحق الوجود للكيان الصهيوني هو اول اهداف الامبريالية لضمان مستقبل هذا الكيان.
لقد بلغ الكيان الصهيوني ذروة سطوته وجبروته بعدوان 1967. وبدا للعالم اجمع، وكأن العالم العربي بشعوبه وجماهيره ودوله وانظمته سيخر راكعا امام هذا الكيان الذي اثبت على الارض انه قوة لا تقهر. وقبل ان يفيق العدو الصهيوني من نشوة انتصاره، كان قرار (فتح) باعلان الانطلاقة الثانية في 28 آب - اغسطس 1967. انطلاقة من ركام اليأس والتردي إلى قمة الامل والتحدي. انطلاقة من محيط هزيمة الجيوش، إلى منبع انتصار الانسان. وامام الانطلاقة وامام نتائجها المباشرة العظيمة في صفوف الجماهير الفلسطينية والعربية، وامام التحدي الكبير الذي فرضته (فتح)، انقضت الصهيونية بكل قواها لتستحق منبع الريادة ومبعث الاعتزاز القومي فكان التصدي الكبير للعدوان.. وكانت الكرامة آذار - مارس 1968، المعركة التي فتحت صفحة جديدة للنضال العربي ضد الكيان الصهيوني. واثبتت بما لا يقبل الشك ان الانسان هو العامل الحاسم في المعارك وليس السلاح. وان حرب الشعب الطويلة الامد وخط الجماهير المسلح بالارادة الصلبة، هما الضمانة الاساسية للنصر، وليس خط الانظمة المساومة.
لقد اكدت معركة الكرامة فيما اكدته من حقائق، كانت غائبة عن اذهان ا لكثيرين، ان الارادة والعزيمة الصلبة والانسان المناضل هما الاساس الذي يضمن النصر وليس تكديس السلاح... كما اكدت ان المناضل الطليعي الواعي عندما يتبنى قضية شعبه فانه بما يحمله بين اضلاعه من روح الاستشهاد، يستطيع ان يجترح المعجزات. ولقد اكدت الكرامة ايضا ان التجربة الخاصة والظروف الخاصة بكل حركة ثورية هي منبع الابداع لاتخاذ القرارات المناسبة وليس مجرد التطبيق الاعمى لتجارب ناجحة لدى شعوب اخرى. واكدت ايضا ان العالم لا يشعر بالعطف على الضعفاء والمستسلمين وانما يحترم الاقوياء الذين يصمدون من اجل تحقيق حقوقهم. فالعالم لا يحترم ضعف اصحاب الحق كما انه يرفض صلف وغطرسة اصحاب الباطل. لقد اظهرت معركة الكرامة شجاعة الانسان العربي الفدائي والجندي الرسمي وانهما عندما يخوضان معركة التحرير جنبا إلى جنب، يستطيعان تحقيق النصر. وان اسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، ظهرت على حقيقتها عندما وجد ان جنود هذا العدو مقيدون بالسلاسل داخل دباباتهم حتى لا يستطيعوا الهرب، في حين كان جنود الجيش الاردني مقيدين بقرارات عدم القتال. وحين حطم الجندي الاردني قيده لم يستطع الجندي الصهيوني الافلات من قبضة القدر العاتية التي الحقها به الفدائي الفلسطيني مع اخيه الجندي في الجيش الاردني. وكان هذا التلاحم وهذه الملحمة البطولية في الكرامة هي بداية لرد الاعتبار لكرامة الجماهير العربية التي انسحقت في حزيران.
وبدأت قيود الانظمة، على اسم فلسطين، تتآكل لدرجة اصبحت ورقة اجازات المقاتلين جواز سفر العبور إلى الوطن العربي باسم فلسطين، مؤكدة صحة الشعار الفتحوي، فلسطين... طريق الوحدة.
وازدادت الخوف الامبريالي الصهيوني من هذه الظاهرة وشموليتها. وحاول العدو الصهيوني ضربها المباشر بكل الوسائل. ولكن الثورة الفلسطينية التي بدا واضحا للعيان انها تزداد قوة ويزداد التلاحم الجماهيري بها فلسطينيا وعربيا كلما تعرضت للتصدي المباشر للعدو الصهيوني، سواء من موقع الدفاع او من موقع الهجوم عسكريا. وكانت العمليات العسكرية تتضاعف داخل الارض المحتلة كلما تعرضت القواعد الارتكازية للثورة في الاردن او لبنان او سوريا للعدوان الصهيوني.
وتفتق الذهن الامبريالي عن قرار يستهدف تصفية الثورة ويضع مهمة هذه التصفية على الانظمة العربية، وجاء قرار الصهيوني كيسنجر (كل نظام تتواجد فيه الثورة الفلسطينية المسلحة عليه ان يقوم بتصفيتها، وكل نظام يرفض او يعجز عن القيام بهذه المهمة سنقوم نحن بتصفيته).
وجاء روجرز في محاولة لدق اول اسفين بين الثورة الفلسطينية والرئيس جمال عبد الناصر. ثم بين الثورة الفلسطينية والاردن بالمرصاد... فكان ايلول 1970، ووقفت القيادة السورية إلى جانب الثورة الفلسطينية تدعم صمودها ضاربة عرض الحائط بالتهديد الامريكي، فكان لا بد من تصفيتها. وجاء النظام السوري الجديد ليساهم مع الاردن في مخطط تصفية الثورة في احراش دبين وعجلون، ثم عمل على التضييق على استقلالية الثورة الفلسطينية في محاولة لتدجينها. واتسعت ثلوج جبل الشيخ لطموحات فلسطين واتسع جنوب لبنان لراية الثورة ورجالها وفتحت المخيمات الفلسطينية في لبنان ابوابها لتتحول إلى ثكنات عسكرية جماهيرية للثورة. وفتح الوطنيون اللبنانيون للثورة الفلسطينية الصدور قبل الدور. فكانت ملحمة تناغم ثوري استمر سنوات منبرا للديمقراطية في غابة البنادق. وملجأ لكل ثائر ضد الامبريالية والصهيونية والعنصرية.
لقد استطاعت الثورة الفلسطينية ان تتجاوز جميع العقبات وسلسلة المؤامرات التصفوية التي استهدفتها ابان ايلول وما بعده. واصبح الوجود الفلسطيني الكياني مكرسا ومجسدا في منظمة التحرير الفلسطينية مما جعل العدو الصهيوني يتجه إلى سياسة ضرب رؤوس المنظمة وقياداتها وممثليها في الخارج.
ولقد شن العدو الصهيوني حربا ضارية جند لها كل ما لديه من امكانيات مخابراتية. فقد شكلت جولدا مائير جهازا خاصا لتصفية قيادات الشعب الفلسطيني. وعينت على رأس هذا الجهاز اهرون ياريف، الذي يعمل رئيسا للاستخبارات العسكرية في الجيش الصهيوني. وانتقلت ساحة الصراع خارج الارض المحتلة. وردت الثورة على هذه الحرب بضرب ادواتها الاساسية مما احدث شلل في جهاز الاستخبارات العسكرية الصهيونية، فاذا بحرب رمضان تدق معاقل الكيان الصهيوني وتحقق العبور وتحرير الجولان خلال ساعات... في الوقت الذي كانت فيه اجهزة المخابرات الصهيونية تتابع خططها الارهابية ضد قيادات الثورة الفلسطينية.
وعلى الرغم من محاولة الاعلام العربي الصاخب اغفال الدور البطولي لمقاتلي الثورة الفلسطينية، فان الحقيقة والممارسة العملية فرضت نفسها، فاعترف وزير اعلام الكيان الصهيوني بان منظمة التحرير الفلسطينية قد فتحت جبهة ثالثة في الشمال ضد "اسرائيل". ولقد اثبتت حرب رمضان من جديد ان اسطورة الجيش الذي لا يقهر هي خرافة تكرست من خلال محاولة تدمير الارادة العربية للقتال. فأي جيش لا يمكن ان يقهر اذا كان خصمه مستلما ومسلما بالهزيمة. اما الشعب، وروح الشعب الخلاقة فانها كانت وستبقى ابد الدهر رمز الصمود والمقاومة، الذي لا يستسلم ولا يساوم على المبادئ. ولقد اضافت حرب رمضان اهمية زخم الجيش النظامي اذا حارب من اجل التحرير وفي اطار استراتيجية النصر. اما اذا كانت حربه من اجل التحريك فان العدو سيكتشف مواطن ضعفه، كما جرى في الدفرسوار وفي الهجوم المعاكس على الجولان. واعاد المقاتل الفلسطيني الاعتبار لدور حرب العصابات وحرب التحرير الشعبية الطويلة الامد... واهميتها عندما تتكامل مع الحرب النظامية المسلحة بارادة الثورة حتى النصر.
وكانت حرب رمضان، بكل ما حملته من ايجابيات وسلبيات وما طرحته في حينه من امكانية فرض الانسحاب على العدو من الاراضي المحتلة عام 1967، حيث وصل التضامن العربي درجة كاد يشكل فيها ولاول مرة ضغطا حقيقيا على الولايات المتحدة لتتخذ موقفا اقل انحيازا للكيان الصهيوني.
وقررت القمة العربية في الرباط ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. واسقط في يد كيسنجر الذي كان يخطط عبر رحلاته المكوكية لانجاز اتفاقيات ثنائية بين الكيان الصهيوني والدول العربية، مصر وسوريا والاردن كل على حدة شاطبا منظمة التحرير الفلسطينية والشعب الفلسطيني الذي لم يرد ذكره في قراري مجلس الامن 242، 338، واعتبر كيسنجر ان قضية الشرق الاوسط اصبحت بعد قرار القمة، تحتاج إلى خياط جديد يعيد حياكة ثوبها الملائم. وكان في جعبة كيسنجر مقص الاجرام، يخطط من اجل تصفية الثورة الفلسطينية التي لم تكن قد حققت الاعتراف الدولي بعد.
واصبحت الكيانية الفلسطينية المتجسدة في منظمة التحرير الفلسطينية، التي كرسها الشعب الفلسطيني ممثلا شرعيا وحيدا له. واصبحت المنظمة تفرض نفسها على الواقع العربي كما كرسته قمتا الجزائر والرباط.
وكان الاعتراف الدولي بالمنظمة يتطلب منها التعامل مع قرارات الامم المتحدة المتعلقة بقضية فلسطين. فكان لا بد من وضع برنامج مرحلي وطني يعتبر خطوة على طريق النضال الطويل الشاق بما لا يتعارض مع الركائز الاستراتيجية لحركتنا.
واجتمع المجلس الوطني في عام 1974 في دورته (12) واقر البرنامج المرحلي، برنامج النقاط العشر، الذي تبنت فيه منظمة التحرير الفلسطينية اقامة السلطة الوطنية على اي جزء يتم تحريره من ارض فلسطين. وقد اعتبر ذلك البرنامج في حينه، انه الخطة الاعتراضية لمخطط التصفية الامبريالية الصهيوني. وقد كانت اول منجزات هذا المشروع، اقرار الامم المتحدة بعضوية مراقب في الجمعية العمومية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 22-11-1974، بعد ان تمت دعوة الاخ ابو عمار رئيس اللجنة التنفيذية لالقاء خطابه التاريخي امام الجمعية العمومية في 13-11-1974، حيث شرح البرنامج المرحلي. واعلن انه جاء يحمل بندقية الثائر في يد وغصن الزيتون في اليد الاخرى وناشد الامم المتحدة قائلا: (لا تسقطوا الغصن الاخضر من يدي).
واستطاع الصهيوني كيسنجر ان يلزم الادارات الامريكية القادمة بعدم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية او اقامة اي حوار معها الا اذا اعترفت بحق "اسرائيل" في الوجود، ونبذت الارهاب، والكفاح المسلح واعترفت بقراري مجلس الامن 242، 338 وقد لعب البرنامج المرحلي الفلسطيني دورا هاما في اجهاض كل البرامج والمشاريع التصفوية السياسية التي حاولت تمزيق وتصفية الثورة الفلسطينية. لقد شكل البرنامج المرحلي خطة اعتراضية لمشاريع الاستسلام فاعطى للثورة قدرة الصمود والمناورة مع المحافظة على الخط الاستراتيجي العام للثورة. وقد اكدت سنوات التلاحم الفلسطيني اللبناني بكل ما فيها من ايجابيات وما تضمنته من سلبيات على ان الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى، ووجدت لتنتصر.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية تدرك ان السلطة الوطنية لا يمكن ان تتحقق على ارض الواقع عبر المفاوضات في ظل اختلال ميزان القوى بشكل ساحق لصالح العدو الصهيوني، خاصة ان السادات كان يلهث خلف الحل الجزئي والصفقة المستفردة، التي قادت إلى كامب ديفيد. وفي نفس الوقت، اقحمت الثورة الفلسطينية المتحالفة مع القوى الوطنية والتقدمية اللبنانية في مواجهة مع القوى الانعزالية. وتطورت الحرب لتصبح المواجهة مع النظام السوري طبقا لتخطيط الوقيعة التي اعدها كيسنجر. وقد عبر شعبنا في فلسطين المحتلة عن احتجاجه الصارخ ضد محاولات تصفية ثورته في لبنان. وتصاعدت وتلاحقت انتفاضات شعبنا احتجاجا على ما كان يجري في لبنان ووصلت الانتفاضات اوجها خلال حصار مخيم تل الزعتر الذي صمد اكثر من سبعين يوما، وصد اكثر من مائتي هجوم ومحاولة اقتحام من القوى الانعزالية.
وفي تل الزعتر كانت بداية تجربة تشكيل اللجان الشعبية لمواجهة متطلبات الصمود. فشكلت اللجنة الشعبية العامة من ممثلين عن كل فصائل الثورة والاتحادات الشعبية وعدد من وجهاء المخيم، وتفرعت عن اللجنة العامة لجان للتموين والامداد والصحة والاغاثة والاعلام والحراسة والاتصالات. وكانت قيادة الميليشيا تتحمل مسؤولية العمل العسكري بالتنسيق المتواصل مع القيادة في بيروت والجبل لتأمين الدعم المستمر بالامداد والمشاركة في صد الهجمات الانعزالية المتتالية بواسطة الحزام الناري، الذي كانت مدفعية الثورة في الجبل تؤمنه لاجهاض الهجمات وافشالها.
وما ان استطاعت الثورة الفلسطينية ان تجمد التناقضات الثانوية التي كانت تستهدف اقحامها في معارك جانبية، حتى انقضت على الكيان الصهيوني، حيث التناقض الاساسي. فخاضت سلسلة من المعارك البطولية والعمليات الجريئة المنطلقة من تنظيم خلايا الثورة في فلسطين المحتلة او من قواعد الانطلاق في الخارج. وكان من ابرز هذه العمليات عملية الشهيدة دلال المغربي. لقد جسدت المرأة الفلسطينية عبر مشاركتها الفعالة في اطر الثورة بكل اشكالها طبيعة التكامل النضالي لشعبنا الفلسطيني، والذي يتخذ ابهى اشكاله وارقى مظاهره اليوم في فلسطين المحتلة.
كانت ردة فعل العدو الصهيوني على التصعيد الثوري المسلح ضد مستعمراته ومراكز تجمعاته ومصانعه العسكرية، ان شن هجومه المكثف ضد قواعد الثورة في جنوب لبنان بهدف تصفيتها. وعلى الرغم من حشد العدو المكثف برا وبحرا وجوا فقد تصدت له قوات الثورة الفلسطينية والقوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية وجماهير الشعبين اللبناني والفلسطيني في تلاحم نضالي، سيظل احد الصور المشرفة والمشرقة في تاريخ امتنا العربية. وعجز الجيش الصهيوني بكل آلياته وامكانياته عن احتلال مدينة صور ومخيماتها. كانت آليات العدو قد حاصرت منطقة صور وتجاوزتها إلى الليطاني. وعندما طلبت القيادة الصهيونية من رئيس الاركان الصهيوني اقتحام صور، قال انه لا يستطيع ان يدخل عش الدبابير. فلقد واجه العدو الصهيوني في مخيم الرشيدية صورة خارقة لبطولة اطفال الار بي جي الذين حولوا خلال دقائق ارتال الآليات إلى اكوام من الحديد الملتهب
وسقطت مقولة بريجنسكي، وداعا منظمة التحرير الفلسطينية. ونتج عن اغلاق الحدود العربية كلها في وجه الثورة الفلسطينية المسلحة. ان تكرس الاهتمام بالبناء التنظيمي والمؤسساتي داخل فلسطين المحتلة جنبا إلى جنب مع متطلبات النشاط العسكري والسياسي والاعلامي في الخارج، حيث اصبحت منظمة التحرير الفلسطينية عضوا مراقبا في الامم المتحدة وعضوا كامل العضوية في الجامعة العربية وفي المؤتمر الاسلامي وفي مؤتمر عدم الانحياز. واصبح لها في الخارج اكثر من مائة سفارة ومكتب وممثلية. واصبح الطفل الفلسطيني يولد في فلسطين المحتلة وهو يحمل شهادة الانتماء الى منظمة التحرير الفلسطينية. فالاسرة التي ولد فيها، ان لم تكن قد قدمت شهيدا ففيها حتما الجريح او المعتقل او الاسير او الذي مر بهذه الظروف على الاقل. والحضانة التي يتعلم فيها تقدم له صورة فلسطين مع كوب الحليب. والروضة التي تنشئه يتعلم فيها الرسم وخربشات الطفولة واناشيد الثورة تملأ اوراقه الوان العلم الفلسطيني والكوفية الفلسطينية وصوته الناعم البريء يغرد منذ الطفولة. فلسطين بلادي.. وطن اهلي واجدادي...
وفي المدرسة يتعلم الطفل والفتى مناهج الثورة التي تطمس وتعري مناهج الاحتلال.
وكان لابد من غطاء علني لنشاطات التنظيمات السرية. فبدأ التركيز على المنظمات الجماهيرية والاتحادات والنقابات المهنية. ولعب تنظيم الشبيبة دوره القيادي في تأطير الشباب تحت واجهات الاندية والفرق الرياضية والكشفية والفنية. كما نشط اتحاد المرأة في بناء مؤسسات الرعاية والحضانة والانتاج المنزلي للتراث الشعبي الفلسطيني. وركز اتحاد العمال على انشاء التعاونيات. ونشطت الفعاليات الثورية في اطرها الجماهيرية والمهنية المعنية. فنشط اتحاد الطلاب في الجامعات والمعاهد والمدارس. ونشط المهندسون والمعلمون والاطباء والصيادلة والمحامون والكتاب والصحفيون والتشكيليون والفنانون والفلاحون كل في مجاله.
ولعبت الجامعات ومجالسها الطلابية دورا قياديا في تأجيج نار الانتفاضات المتعاقبة عبر نشاطاتها الفعالة في الاعتصامات والاضرابات والمظاهرات الاحتجاجية والمصادمات مع جيش الاحتلال الصهيوني، على الرغم من تعرض الجامعات المستمر للاغلاق والمحاصرة. وكانت الجامعة الوطنية الكبرى لتعليم دروس الثورة وبناء الكادر القيادي، هي سجون ومعتقلات العدو الصهيوني، حيث كانت المواجهة البطولية تتم بين المناضل الفلسطيني الاسير او المعتقل الاعزل، وبين الجلاد الصهيوني بكل ما يحويه سجنه ومعتقله من ادوات التعذيب والاذلال وقتل الروح المعنوية والصمود. وكم كانت هذه المعارك الصدامية داخل الزنازين وغرف التحقيق قاسية. ولكن الارادة الصلبة التي كانت السلاح الوحيد للمناضل الفلسطيني مدعما بالقناعتين الرئيسيتين للثائر الفتحوي والفلسطيني وهما:
* الايمان المطلق بحتمية النصر.
* والاستعداد الدائم للتضحية.
 

هذه الارادة الثورية تنتصر على قبضة السجانين الحديدية. وكانت تتجلى في اسمى معانيها يوم تصل الارادة إلى حد الاستشهاد فيحترق السجان غيظا وروح المناضل تصعد إلى بارئها في السماء حاملة معها اسرار الثورة وعنفوانها ومكرسة الثقة وكرامة النفس وسياج الثورة والوطن. وعلى الرغم من الحدود المحروسة من الجانبين، فقد كثفت الثورة اختراقاتها للموانع المزدوجة. وكان الجنوب اللبناني اسهل مناطق التصعيد حيث لم تكن قوات الطوارئ الدولية تشكل سدا منيعا، كما هي الحال على الحدود العربية الاخرى. وحين انصبت المدفعية الفلسطينية الثقيلة على المستعمرات الاشكنازية في نهاريا وما حولها، جن جنون الكيان الصهيوني وهو يشاهد الثورة تركز عملياتها ضد مجتمع النخبة الحاكمة في الكيان الصهيوني، وفي عمق هذا الكيان. واصبح واضحا عجز امكانية تصفية الكيان الصهيوني مدعما بكل اسلحة القتل والدمار الامريكية باجتياح لبنان وبهدف تصفية البنية التحتية للثورة، ومن ثم القضاء على الوجود المادي والمعنوي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وجعل الاحتلال الصهيوني امرا واقعا، وطمس الشخصية الفلسطينية المستقلة إلى الابد. كانت طموحات الجنرال هيج والجنرال شارون قد هيأت لهما ان العملية تبدو سهلة وكأنها نزهة تستغرق ساعات او ايام، فاذا بالجيش الصهيوني يعبر ارض الرمال المتحركة في لبنان، وتصبح عملية العشرين الف جندي من القوات الصهيونية.. فستين، فتسعين، فمائة وخمسين الف جندي مع كل ما يساندهم برا وبحرا وجوا، وجميعها اصطدمت بصمود القوات والجماهير الشعبية المسلحة في جنوب لبنان. ثم واجهت السد الوطني الثوري اللبناني والفلسطيني، المدني الشعبي والعسكري، وتحطمت على صخرة صمود بيروت طموحات هيج المعزول وحملة شارون الغازي، التي استمرت ثمانية وثمانين يوما على اسوار بيروت الصامدة، دون ان تستطيع اقتحامها على الرغم من الهجمات المتتالية برا وبحرا وجوا، واستخدام كل انواع الاسلحة الفتاكة، بما فيها الاسلحة المحرمة دوليا، والاسلحة التي تستخدم لاول مرة، حيث كان الانسان الفلسطيني واللبناني حقل تجارب لاسلحة الامبريالية الامريكية المجرمة. ولعبت اللجان الشعبية دورها الفاعل في تأمين الصمود البطولي في بيروت. وظن الامبرياليون والصهاينة انهم باجلائهم المقاتلين عن بيروت وتوزيعهم في معسكرات بعيدة عن ارض فلسطين قد حققوا الغاء دور الكفاح المسلح الفلسطيني، والغاء الارادة الفلسطينية المقاتلة. وللامعان في قتل الروح المعنوية الفلسطينية قام شارون بالمجزرة الرهيبة ضد المخيمين الاعزلين صبرا وشاتيلا، وقام باحتلال بيروت الغربية بعد ان غادرها فرسانه وحماتها تحت ضغط تجنيبها وسكانها من التدمير الشامل.
وجاءت المفاجأة الكبرى للادارة الامريكية وهي تشاهد العنقاء تخرج من الرماد واشلاء اوزوريس تتجمع من الشتات جسدا متماسكا بارادته القوية. فقوات الثورة الفلسطينية التي ظنوا انهم القوا بها في منافي الشتات والفناء، تتجمع في الشطر الجنوبي من اليمن، لتقوم باعظم استعراض عسكري احتفالا بالذكرى الثامنة عشرة لانطلاقة الثورة المسلحة. وجاءت القوات خلال ساعات لتشارك قوات الثورة المتواجدة في اليمن بشطريه. جاءت من الجزائر ومن تونس ومن دمشق ومن بغداد ومن السودان، لتؤكد حقيقة اساسية، وهي ان البعد الجغرافي لم يعد يشكل في هذا العصر عائقا عن الوصول إلى قلب المعركة، في الوقت المناسب، شريطة توفر الارادة الثورية المقاتلة.
وعلى الرغم من العدوان الصهيوني الشامل على لبنان عام 1982 الذي كان النتيجة المباشرة لاتفاقيات كامب ديفيد، الا ان الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية والقوى اللبنانية المناضلة صمدوا بشكل اسطوري سجل ملحمة بطولة التلاحم بين الشعبين الفلسطيني واللبناني بنور ونار، سيظل ابد الدهر نبراسا لكل الشرفاء والاحرار في العالم. وعلى الرغم من خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان وتوزيعهم على معسكرات بعيدة عن خط المواجهة، الا ان حقيقة الوجود الفلسطيني على كافة الاصعدة، كان قد تثبت، وثبت معه خارطة فلسطين في قلب الكرة الارضية كحقيقة راسخة، بغض النظر عمن ينظر اليها ومن اية زاوية.
بدأت المشاريع العربية والدولية تحاول وضع البرنامج المرحلي الفلسطيني موضع التنفيذ. فكان مشروع ريغان الذي تجاهل الحقوق الفلسطينية الثابتة وتعامل مع القضية انطلاقا من قرار 242 الذي يعتبرها قضية لاجئين. وتبعه مشروع قمة فاس، ثم مشروع بريجنيف، اللذان حددا بشكل واضح ضرورة اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الاراضي المحتلة بعد عدوان 1967. وعلى الحدود الآمنة والمعترف بها لكل دول المنطقة. وكان الموقف الفلسطيني يتطلب اول ما يتطلب تجسيد الوحدة الوطنية حتى لا تكون هذه المشاريع بما فيها من ايجابيات وسلبيات سببا في تمزيق الساحة الفلسطينية. وجاء المجلس الوطني في الجزائر لكي يجيب عن الاسئلة بوضوح فكانت قراراته كما يلي:
1. بما يتعلق بمشروع ريغان.
(ان مشروع ريغان في نهجه ومضمونه لا يلبي الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، لانه يتنكر لحقوق العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. ويتناقض مع الشرعية الدولية، ولذلك يعلن المجلس الوطني الفلسطيني رفض اعتباره اساسا صالحا للحل العادل والدائم لقضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني).
2. بما يتعلق بمشروع بريجنيف.
(يعبر المجلس الوطني الفلسطيني عن التقدير والتأكيد للمقترحات التي تضمنها مشروع الرئيس بريجنيف الصادر في 16 سبتمبر 1982، والذي يؤكد على الحقوق الوطنية الثابتة لشعبنا، بما في ذلك حقه في العودة، وتقرير المصير، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ممثله الشرعي والوحيد).
3. بما يتعلق بقرارات قمة فاس والمشروع العربي للسلام.
(يعتبر المجلس الوطني قرارات قمة فاس الحد الادنى للتحرك السياسي للدول العربية الذي يجب ان يتكامل مع العمل العسكري بكل مستلزماته، من اجل تعديل ميزان القوى لصالح النضال والحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية. ويؤكد المجلس ان مهمة هذه القرارات لا تتناقض مع الالتزام بالبرنامج السياسي وقرارات المجلس الوطني).
لقد انطلق المجلس الوطني في قراراته من الحرص على الوحدة الوطنية والانسجام مع البرنامج المرحلي وتأكيد الركائز الاساسية للانطلاقة، ورفض ما يتعارض معها استراتيجيا. وعلى هذا الاساس، كان رفض مشروع ريغان، الذي يكرس حق الكيان الصهيوني في الوجود من جهة، ويتجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره من جهة اخرى.
وكان ما تضمنه المشروع السوفيتي للسلام من تأكيد على الحقوق الثابتة، وبقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها الممثل الشرعي الوحيد هو الدافع لتقدير وتأييد هذا المشروع. اما مشروع السلام العربي فانه إلى جانب تأكيده على الاستقلالية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، فقد اكد ان المشروع هو الحد الادنى للتحرك السياسي العربي، الذي يجب ان يتكامل مع العمل العسكري بكل مستلزماته.
وبدأت مؤامرة تقويض الركائز الاساسية للانطلاقة. وبدأ التناغم بين قبائل الانظمة لتوزيع دم المنظمة عليها. وكان لابد من يهوذا فجاءت المحاولة الانقلابية داخل (فتح)، وحاولت الانظمة العربية تعميمها بشق المنظمة تحت شعار البحث عن البديل، وهم في الحقيقة يهدفون إلى تدمير كل ما هو فلسطيني اصيل، وشطب كل ما يتعلق باستقلالية الشعب الفلسطيني وارادته وتقرير مصيره. كانت خطوات التآمر متناسقة. يتناوب فيها الترغيب والترهيب، والمجاملات البروتوكولية وصليات الصواريخ التي انهالت على مخيمات البارد والبداوي وطرابلس. وكان فهم قيادة الحركة والمنظمة لطبيعة المؤامرة إلى جانب المعلومات التي كانت تصل اولا باول عن طبيعة فصولها، دور اساسي في القدرة على التصدي لها، وتجاوزها عبر التسامح الوطني الفلسطيني، وفضح الادوار المرتبطة بأجهزة المخابرات. ولان حبل الانقلابات والمؤامرات الفاشلة قصير جدا، فقد انقلب السحر على الساحر. وفشلت الامبريالية الامريكية في تصفية الثورة عبر المحاولات الانقلابية والمعارك الجانبية في البقاع وطرابلس. وكان لتجربة الحصار في طرابلس اهميتها حيث صمدت قوات الثورة في وجه الحصار المزدوج. واستطاعت وهي في هذه الظروف ان تقوم بعملية استراتيجية، كان لها اثرها الفعال في مسار النضال الفلسطيني. فقد تمت عملية تحرير المئات من الاسرى والمعتقلين من سجون العدو الصهيوني مقابل الافراج عن الاسرى الصهاينة. وكان اصرار الثورة على تحرير المحكومين بالمؤبد وبما يزيد عن عشرين عاما وخاصة من سكان الارض المحتلة، شريطة ان يتم الافراج عنهم ومنحهم الحرية للعيش داخل فلسطين.
لقد خرجت الجامعة الوطنية الكبرى طلابها اساتذة كبارا، يعرفون دروس الثورة وقد تمرسوا وخبروا وعرفوا نقاط ضعف العدو الصهيوني. ولم تعد لجنوده ولسجانيه وآلياته واسلحته اية رهبة. لقد تكسر حاجز الخوف من العدو الصهيوني امام جماهير الشعب الفلسطيني نساء ورجالا، اطفالا وشبابا وشيوخا وكهولا. فبعد ان كانت المواجهات الجماهيرية، تستر خلفها البنى التنظيمية للفصائل المقاتلة، اصبحت قادة التنظيمات الفلسطينية المسلحة في الداخل احرارا وقادة وقدرة نضالية لجماهير الارض المحتلة.
وبدأت مؤامرة تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان لتمرير مؤامرة التوطين. فقامت منظمة التحرير الفلسطينية باعادة معظم المقاتلين لحماية المخيمات حتى لا تتكرر مأساة صبرا وشاتيلا من جديد. وعلى الرغم من الصفقات المشبوهة التي استوجب استخدام قوى شقيقة لتصفية المخيمات، الا ان الصمود البطولي لهذه المخيمات لاكثر من ثلاث سنوات، كان يكرس معجزة الصمود الفلسطيني في أسمى معانيها. وكان يؤكد انه بالثورة يصبح الخارق اليفا. وحين توجهت المؤامرة الامريكية الصهيونية لمحاولة اغتيال الاخ ابو عمار والقيادة الفلسطينية في حمام الشط، اصبحت الامور اكثر وضوحا. واكدت الثورة الفلسطينية بذلك ان كل الدول العربية هي دول مواجهة. فما دام العدو الصهيوني يستطيع ان يمد ذراعه المجرمة لتطال المفاعل النووي في العراق وحمام الشط في تونس، فان اليد العربية يجب ان تعرف كيف تمتد لاجتثاث الخطر، الذي لا يهدد الشعب الفلسطيني فحسب، وانما يهدد الامة العربية في كرامتها ووجودها وحريتها واستقلالها.
وانعقد المجلس الوطني.. في الجزائر وتعززت الوحدة الوطنية ايذانا بانطلاق وحدوي ارحب، يؤكد ان عام 1987 سيكون عام فلسطين، فقد سقطت كل محاولات تسويق منظمة التحرير الفلسطينية، في سوق النخاسة الامبريالية بتعريتها من ركائز الانطلاقة ركائز الثورة حتى النصر. فقد طلبوا من المنظمة ان تعترف بقراري مجلس الامن 242 و 338، والاعلان عن التخلي عن الكفاح المسلح والتنازل عن دورها المستقل، هذا من جهة. في الوقت الذي كانت فيه مؤامرة تصفية الشعب الفلسطيني ووجوده في مخيمات لبنان يسير متناسقا مع خطوات تصفية المنظمة. كانت الهجمة على المخيمات تحت شعارات (امل)، تستهدف تقويض العلاقة التاريخية النضالية بين الشعبين اللبناني والفلسطيني، وفتح آفاق جديدة امام الكيان الصهيوني، ليقطف ثمرة عدوان ما اسماه "سلامة الجليل"، بتأمين المستوطنات في شمال فلسطين من ضربات الثوار.
كان ترحيل المخيمات من جنوب لبنان وبيروت يحقق للنظام السوري في لبنان هيمنة وسيطرة تلغي استقلال لبنان ووحدته. في الوقت الذي يحقق هذا الترحيل للكيان الصهيوني نموذجا يقتدي به لترحيل المخيمات الفلسطينية في الضفة والقطاع الى خارج فلسطين باعتبارها بؤر التوتر وصواعق الانتفاضات المتعاقبة. ولكن الصمود البطولي للمخيمات وتجلي الوحدة الوطنية الفلسطينية المعمدة بالدم بين قواعد المقاتلين في هذه المخيمات، ورفض كل ما كان يصدر اليها من اوامر وتعليمات بافتعال معارك اقتتال فلسطيني/ فلسطيني، كان المفتاح الحقيقي والمجسد الاول للوحدة الوطنية التي تم تتويجها في المجلس الوطني في الجزائر وتكريسها التمسك بالركائز الاستراتيجية للانطلاقة.
عام 1987 هو عام فلسطين. عام الشعب الفلسطيني. هذا ما قررته الامم المتحدة من خلال اللجنة الدولية للتنسيق بين المنظمات غير الحكومية المعينة بقضية فلسطين. هذا العام هو عام الذكريات السبع المريرة والصفحات السوداء التي لا تزال تطارد الضمير الانساني. فعام 1987 يحمل الذكرى التسعين للمؤتمر الصهيوني الاول الذي بدأ تحت شعار ارض بلا شعب لشعب بلا ارض موضع التنفيذ.
وعام 1987 يحمل الذكرى الثمانين لمؤتمر الاستعمار، مؤتمر كامبل بنرمان الذي كرس ضرورة زرع الكيان الصهيوني على ارض فلسطين كضرورة تاريخية تتطلبها مصلحة كل الدول الاستعمارية.
وعام 1987 يحمل الذكرى السبعين لوعد الذي اعطى من لا يملك لمن لا يستحق، معلنا بداية وضع الدول الاستعمارية لاستراتيجية التوتر الدائم موضع التنفيذ.
وعام 1987 يحمل الذكرى الاربعين لقرار تقسيم فلسطين. الذي كرس التوتر الدائم بتمزيقه لفلسطين ارض السلام ومهد الديانات والمقدسات والمكان الاكثر ملاءمة في العالم، ليكون الدولة الديمقراطية المستقلة التي يعيش فيها المواطنون جميعا ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات ودون تمييز بسبب العنصر او الدين او العقيدة. وعام 1987 يحمل الذكرى العشرين للعدوان الصهيوني المدعم مباشرة بالامبريالية الامريكية والذي زرع في نفوس العسكريين الصهاينة نزعة الغطرسة التي جعلتهم يقدمون على ضم بعض المناطق التي تم احتلالها مثل القدس والجولان ونهب نصف مساحة الضفة الغربية والقطاع باسم الامن والاستيطان.
وعام 1987 يحمل الذكرى العاشرة لزيارة العار والاستسلام من قبل السادات الى القدس وتسليمه بشروط الكيان الصهيوني والامبريالية الامريكية بحق الكيان الصهيوني في الوجود على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ولقد كان جواب الشعب على مؤامرة كامب ديفيد واضحا برفض التطبيع والمعاهدة وبالاطاحة برمز كامب ديفيد، التي لا تزال قيودها تكبل الارادة المستقلة لشعب مصر العظيم.
وعام 1987 يحمل الذكرى الخامسة للعدوان الصهيوني الشامل على لبنان وما حمله هذا العدوان من جرائم ارتكبها العدوان من جرائم ارتكبها العدوان الصهيوني ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني باستخدامه الاسلحة المحرمة دوليا وبتحويله المخيمات والقرى والمدن الى ساحات تجريب لفعالية الاسلحة الامريكية الحديثة الاختراع. وقد بلغت هذه الجرائم ذروتها بمذابح صبرا وشاتيلا.
هذه الصفحات السوداء السبع للذكريات المريرة جعلت بيريز يعلن وهو يزور مصر ان عام 1987 سيكون عام حل القضية الفلسطينية. ونحن نعرف ان حل القضية الفلسطينية على الطريقة الصهيونية يعني طريق كامب ديفيد. ولكن ثوار فلسطين الابطال يستلهمون من الذكريات المريرة دروس نضال عميق. يضاف الى جانب الدروس التي تتراكم من خلال ايجابيات النضال الفلسطيني المتعاظم. فلقد تعززت الوحدة الوطنية الفلسطينية في عام 1987 بعد ان تم تحقيقها على الارض في حرب الدفاع عن المخيمات والشعب الفلسطيني في لبنان. كما ان عام فلسطين شهد التفافا عالميا حول برنامج الثورة وتأييدا للمؤتمر الدولي ذي الصلاحيات، والذي يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كما ان عام 1987 فرض تعزيز التضامن العربي في مواجهة الخطر الناتج عن العدوان الغاشم على العراق الى جانب الخطر على الارض الفلسطينية. وبدأت موجات الانتفاضة تتقارب وتتصاعد وتنتقل من مكان الى مكان داخل الارض المحتلة. وبلغت ذروتها يوم ظهرت محاولة طمس الهوية الفلسطينية وجعل القضية الفلسطينية من الدرجة الثانية في مؤتمر القمة العربي الطارئ في عمان. يومها، ونذكر للتاريخ الوقفة الرائعة للاخ المناضل علي عبد الله صالح وللرئيسين صدام حسين والشاذلي بن جديد واصرارهم على تأكيد القرارات السابقة للقمم العربية والمتعلقة بالقضية الفلسطينية وتأكيد انها جوهر الصراع في الشرق الاوسط.
وكان الوضع الدولي يحمل في طياته بوادر انفراج دولي ووفاق يمكن ان يساهم في الدفع باتجاه مؤتمر دولي للسلام ذي صلاحيات. تشارك فيه منظمة التحرير الفلسطينية على قدم المساواة لانجاز الحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف لشعبنا الفلسطيني، بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وفي ديسمبر 1987 لم تجد القضية الفلسطينية مكانا لها في جدول اعمال قمة العملاقين نتيجة اصرار الرئيس الامريكي على تجاهل الشعب الفلسطيني.
كان الغليان الوطني الثوري في فلسطين المحتلة قد بلغ مداه. فالثورة ومنظمة التحرير مهددة بالتصفية، والعالم العربي يقف متفرجا منقسما على نفسه. وكان لابد للخارق اني يصبح اليفا... فانفجرت في الارض المحتلة جماهير الشعب الفلسطيني في انتفاضة مباركة، ظن الصهاينة انها ليست سوى موجة عادية من موجات الانتفاضات السابقة، لدرجة ان وزير الحرب الصهيوني الذي كان في زيارة لامريكا لم يكلف نفسه مشقة العودة خلال الاسبوعين الاولين للانتفاضة، تاركا مهمة معالجتها لشامير المعروف بذكائه جدا.
وبدأت خطة جديدة لتصفية المنظمة والانتفاضة، انطلقت في البداية من الفصل العضوي والفكري والسياسي بين الانتفاضة ومنظمة التحرير الفلسطينية. وامتلأت الصحف والمجلات بالمقالات المشبوهة والبريئة، تمجد الانتفاضة وقادتها في الداخل بهدف التركيز لخلق قيادة بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية، وهو احد الطموحات التي حاول شولتز تحقيقها في جولاته المكوكية لانقاذ الكيان الصهيوني. وجاء الجواب من داخل فلسطين المحتلة، من الشخصيات والفعاليات والاتحادات والجماهير المنتفضة، تعلن ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وارتفع العلم الفلسطيني وصور الاخ ابو عمار في كل المناسبات لتؤكد حقيقة الانتماء والتواصل. وكان للدور النشيط الذي شاركت فيه التيارات الاسلامية ولدور المسجد البارز في الانتفاضة كنقطة وتجمع وانطلاق وتعبير، ان حاولت القوى المعادية للاسلام والمسلمين ان تربط الانتفاضة بالخميني وغيره من الاحزاب بهدف الايقاع وخلق الشرخ في وحدة الانتفاضة. وكان للمشاركة الفعالة لكل جماهير شعبنا الفلسطيني المسلم في غالبيته، مع الاخوة المسيحيين من ابناء شعبنا، والدور النشط للكنيسة جنبا الى جنب مع الجامع، اكبر الاثر في الوحدة الوطنية العميقة التي تحققت والتي اكدتها كل البيانات والنداءات، رافضة اية محاولة للانجرار الى معارك جانبية تقسم الشعب الفلسطيني الى فصائل وعقائد وشرائح هو في غنى عنها، وهو يواجه وجود الاحتلال الصهيوني وقبضته الحديدية التي لا ترحم احدا، وظهر ان هذه التفرقة وهذه التسميات ليس لها على ارض الواقع اي دور، وانما هي من ابداع الامبريالية والصهاينة يتخذونها وسيلة لاجهاض الانتفاضة ولكن خسئوا...
وحين فشلت اساليبهم توجهوا الى الرأس الملهم والمخطط للانتفاضة، الاخ ابو جهاد نائب القائد العام والمسؤول المباشر عن العمل في الارض المحتلة. وحيث لا يمنع حذر من قدر فقد نفذت ارادة الله ومشيئته، وودعت الجماهير العربية والاسلامية امير الشهداء في موكب استفتاء ومبايعة للثورة الفلسطينية وللانتفاضة المباركة. وظن المجرمون انهم سيطفئون بجريمتها جذوة الثورة الشعبية فاذا البركان الهادر في فلسطين يتمدد مغطيا كل جبالها وسهولها في الجليل والمثلث والنقب وفي الضفة والقطاع. وصعدت روح ابي جهاد محاطة بارواح سبعة عشر شهيدا اصروا على مواكبة روحه الطاهرة وهي تصعد الى بارئها.


بسم الله الرحمن الرحيم
"ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54)"
سورة آل عمران
صدق الله العظيم


وطبقت الدروس المستفادة من تجارب مكلفة، استنزفت من الدماء والعرق الكثير الكثير. وها هي الخطة الاعتراضية لخطة التصفية الامبريالية التي ارتفع شعارها عام 1974 شعار اقامة السلطة الوطنية، تشق طريق تنفيذها على الارض. ولان ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، فقد كان لابد لانجاز هذه المرحلة وتحقيق اقامة سلطة الشعب الفلسطيني، ان يتم تدمير سلطة القمع الصهيوني. ولتطبيق قانون الانتفاضة كان لابد من شطب قانون الاحتلال.
ومن المنطقي ان تبدأ الخطوات المتتالية المنتظمة في اطار خطة شاملة متطورة مع الاحداث والانجازات، ترفض حرق المراحل والقفز عن الحقائق الموضوعية، وانما تفرض تراكم الوقائع الفلسطينية على الارض وتطرد وقائع الاحتلال. ولبناء السلطة الشعبية كان لابد من تفكيك سلطة الادارة الاحتلالية وذلك بتوجيه الضربات المتتالية لمؤسساتها عبر المقاطعة من قبل جماهير الشعب الفلسطيني، واستقالة العاملين في الشرطة والجمارك والضرائب واللجان البلدية والقروية المعنية وغيرها.
كما تم الحض على التمرد الاقتصادي عبر الضربات الجزئية والشاملة والامتناع عن العمل في المؤسسات الاقتصادية في ايام الاضراب الشامل، ورفض العمل قطعيا في المستوطنات، ومقاطعة البضائع والمنتجات الصهيونية، والامتناع عن دفع الضرائب.
وجاءت اول نتائج الانتفاضة باعلان الاردن في اواخر تموز 1988 عن فك ارتباطه بالضفة الغربية.. مما جعلها تتحدد في اطار مفهوم القانون الدولي كارض فلسطينية محتلة. وأدى هذا التطور الى التعامل مع قراري مجلس الامن 242، 338 باعتبارهما يتعلقان بانسحاب الكيان الصهيوني من الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 الى جانب الاراضي العربية المحتلة في الجولان. وفي مطلع شهر آب 1988 تحقق الانتصار العراقي في الحرب العراقية الايرانية. ولان الموقف العراقي المساند للثورة الفلسطينية والداعم للانتفاضة كان واضحا للعيان ومعلنا للملأ. فقد بدأت الدوائر الامبريالية تخطط لاحتواء العراق وطاقاته العسكرية بعيدا عن معركة المواجهة مع العدو الصهيوني. وتلخص الموقف السياسي الامريكي تجاه الشرق الاوسط في التقرير الذي اعدته اللجنة الرئاسية تحت عنوان "البناء من اجل السلام"، والذي انطلق من ارضية شرخ الشعب الفلسطيني بين الداخل والخارج. واعتبار الداخل هم الفلسطينيون الذين انتفضوا، ومعهم يكون التفاهم الاسرائيلي لحل المشكلة الفلسطينية على اساس اتفاقيات كامب ديفيد. اما فلسطينيو الخارج فهم لاجئون عرب تحل مشكلتهم في البلدان العربية.
اما بالنسبة للعراق فقد تطلع التقرير الى احتوائه عبر تحالف ضمني يضم العراق والسعودية والكيان الصهيوني. حيث يشكل هذا التحالف، لو تحقق، خدمة لمصالح الامبريالية الامريكية وسيطرتها المطلقة على النفط العالمي.
وقد تصدى الشعب الفلسطيني في كل اماكن تواجده للمخطط التقسيمي التصفوي. وجاء رد الانتفاضة الجبارة. وشعارها النضالي.. دحر الاحتلال والحرية والاستقلال الوطني..
وجاء تجاوب المنظمة مع شعار الانتفاضة باعلان الاستقلال لدولة فلسطين في دورة المجلس الوطني التاسعة عشرة المنعقد في الجزائر بتاريخ 15-11-1988.
كانت بوادر التفكك في المنظومة الاشتراكية بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة قد بدأت تعطي نتائج سلبية. وكان اخطر هذه النتائج ذلك التهجير المكثف ليهود الاتحاد السوفيتي واوروبا الشرقية الى فلسطين المحتلة. وقد اتسع نطاق هذه الهجرة واتسع معه نطاق اغتصاب الاراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة وانشاء المستوطنات الصهيونية عليها.
وترافق تصاعد الهجرة مع التهديدات الصهيونية للعراق الذي بدأ يطور قدراته العسكرية بما يخدم المعركة القومية ضد العدو الصهيوني. وكانت دعوة العراق للامة العربية بالوقوف صفا واحدا في مواجهة العدو الصهيوني الذي لا ينتصر على العرب نتيجة قوته، وانما نتيجة ضعف العرب الناتج عن تفرقهم..
وفي ايار عام 1990 اجتمع مؤتمر القمة العربي في بغداد تحت شعار مقاومة الهجرة الصهيونية ودعم العراق في مواجهة التهديدات الاسرائيلية. ولم يكن ذلك المؤتمر في حقيقته توحيديا، بقدر ما كان تجسيدا لانقسام خطير، لعبت فيه الولايات المتحدة دور السكين المسموم، فقسمت العرب عربين كما بدا واضحا للعيان ابان ازمة الخليج وقضية الكويت.
وكان الموقف الفلسطيني في تلك الازمة منسجما مع الوقفة الضميرية التي عبر عنها شعبنا في الارض المحتلة، والذي رفض العدوان الامريكي ضد العراق، وطالب بحل المشكلة عربيا في اطار القمة العربية والجامعة العربية. ولكن المخطط العدواني الامبريالي الصهيوني الذي تناغم في اطار هدفين اساسيين، الاول، سيطرة امريكا المطلقة على نفط الخليج بعيدا عن طموحات العراق في توظيف بترول العرب لمصلحة العرب. والثاني ضرب القدرة العسكرية للعراق باعتبارها الخطر القومي الوحيد الذي يهدد وجود الكيان الصهيوني.
وجاءت نتيجة حرب الخليج، ليس كما اراد العراق، وان كان قد ابدى صمودا وبطولة في مواجهة عدوان ثلاثيني، يضم الدول العظمى ومصحوبا بانحياز الاتحاد السوفيتي.
ولم تكن النتيجة، كما اراد بوش ايضا، القضاء على النظام في العراق.. ولكنه استطاع ان ينتزع من الامم المتحدة القرارات التي يريدها وان يتعامل بازدواجية واضحة مع قرارات الامم المتحدة، مما جعله يعلن بكل ثقة ان نظاما عالميا جديدا، ينبثق من رماد حرب الخليج.
وكانت اول مؤامرات هذا النظام العالمي الجديد الذي كان بوش يحلم بانشائه هو العمل على معاقبة العراق... وتصفية منظمة التحرير الفلسطينية بما يعنيه ذلك من تصفية للطموح الاستقلالي للشعب الفلسطيني، والغاء كيانيته وهويته الوطنية وحل المشكلة على اساس اتفاقيات كامب ديفيد، ومشروع الحكم الذاتي الخاضع للكيان الصهيوني، والذي يكرس شرعية الاحتلال بالموافقة الفلسطينية.
وقد ظهرت خيوط المؤامرة وركائزها واضحة عبر التخطيط لمؤتمر مدريد. وهو ما تسميه امريكا مؤتمر السلام، والذي ابتدأ التخطيط له بخطاب بوش في 6 آذار 1991 بعد حرب الخليج، والذي اعتبر مبادرة للسلم. وتبع ذلك جولات مكوكية قام بها وزير خارجيته بيكر من اجل ترتيب المخطط الاخطر ضد الامة العربية.
وتمخضت جولات بيكر عن وضع اسس لمؤتمر مدريد، تنطلق اساسا من انه لا يوجد احد في المنطقة يستطيع ان يقول لا.. للسيد الامريكي.. هذا اولا.
وان الدول التي وقفت في مجموعة الحل العربي عليها ان تغير موقفها والا فانها ستعاقب، وهذا ثانيا. وان دور الاردن الهام في عملية السلام الامريكي يبرر معاملته بما يخدم مصلحة المخطط.. خاصة اذا استطاع ان يشكل مظلة للوفد الفلسطيني، يتم من خلالها ابعاد منظمة التحرير الفلسطينية عن المشاركة مباشرة في علمية السلام وهذا ثالثا.
اما رابعا، وهو ما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية.. فالمخطط يعتبر تصفيتها ضرورة لمسيرة السلام، حيث انها تمثل الهوية الوطنية المستقلة للشعب الفلسطيني، والتي تعني مشاركتها الاعتراف باهدافها في الحرية والاستقلال الوطن والدولة المستقلة. وهو الامر الذي يحول دون مشاركة الكيان الصهيوني في العملية.
اما العراق فله مخططه الخاص خارج موضوع مسيرة التسوية.
يقوم المخطط المؤامرة على اربعة ركائز اساسية اعتمدتها ادارة بوش. وهي تنسجم مع المخطط الذي وضعه مجموعة الصهاينة في تقرير "البناء من اجل السلام" "Building for Peace" ، ويهدف المخطط إلى تحقيق الاذعان العربي الشامل للعصر الصهيوني ولتحقيق "اسرائيل الكبرى".
تقوم الركيزة الاولى على اعادة الاعتبار للحركة الصهيونية باعتبارها حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي. وبهذه الركيزة تحقق الحركة الصهيونية شرعية عدوانها الغاشم على الامة العربية من جهة، وتدين التصدي والنضال العربي الذي واجهها وتصدى لها من جهة اخرى. كانت العقبة في وجه امريكا تتمثل بقرار الجمعية العامة للامم المتحدة الصادر في العاشر من نوفمبر 1975. والذي يدين الصهيونية باعتبارها شكلا من اشكال العنصرية. وقد بذلت امريكا جهدا كبيرا في تجميع الاصوات من الجمعية، لكي تلغي قرار ادانة الصهيونية من جهة، ثم ترد لها الاعتبار بوصفها حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي من جهة اخرى. وعلى الرغم من كل الجهد الذي بذلته امريكا وحلفاء حفر الباطن لتحقيق هذا الهدف، فقد عجزت امريكا عن تجميع الاصوات اللازمة لاعتبار الصهيونية حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي، حيث لم توافق مع امريكا على مشروع القرار سوى 76 دولة وهذا العدد لا يكفي لاصدار القرار. فاكتفت مرحليا بالاصوات التي جمعتها لالغاء القرار السابق للجمعية العامة الذي يدين الصهيونية، حيث استطاعت ان تحشد لمشروع هذا القرار "110" صوتاً. وقد ساهمت دول عربية ودول اسلامية في التواطؤ مع السياسة الامريكية، على الرغم من القرار الذي اتخذ في المؤتمر الاسلامي في داكار، بادانة التحركات لتبرئة الصهيونية، وبالتأكيد على قرار الجمعية العامة بإدانتها.
اما الركيزة الثانية.. وهي النقيض للاولى فهو تحقيق ادانة منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها حركة ارهابية، وذلك في مقدمة لطردها من الامم المتحدة كعضو مراقب، وتصفية وجودها السياسي والدبلوماسي ومطاردة اعضائها وقياداتها.. تحت طائلة القانون الدولي للنظام العالمي الجديد.
هذه الركيزة التي يشكل انجازها اهم واخطر اهداف الصهيونية والامبرياليين، لأنها تهدم السد المنيع والعقبة الكأداء، التي تقف في وجه المخططات الصهيونية الامبريالية التوسعية. ولا بد لنا ان نتذكر كل الخطوات السابقة والراهنة التي خطتها الولايات المتحدة تجاه تحقيق هذا الهدف منذ صدور التقرير الصهيوني الامبريالي "البناء من اجل السلام".. لقد اقامت الولايات المتحدة حوارا شكليا مع المنظمة، بعد ان انتزعت الشروط التي وضعها الصهيوني كيسنجر لسد الطريق امام اي دور سياسي مستقبلي للمنظمة. ثم جاء قطع الادارة الامريكية للحوار الشكلي تحت شعار عدم تخلي المنظمة عن الارهاب، وعدم ادانتها لعملية الشاطئ البطولية التي قامت بها جبهة التحرير الفلسطينية. هنا يكمن جوهر النظرة الامريكية.. المنظمة تساوي الارهاب.. وجاءت مؤامرة حفر الباطن.. ووقفت المنظمة حيث يجب ان تقف في وجه الغزو الامبريالي الصهيوني للامة العربية.. فأكد الامريكان تصنيفها بأنها مع العدوان.. ولهذا جاءت خطة ما يسمى بالسلام.. دون اشارة لأي دور للمنظمة.. صحيح ان الامريكان يدركون جيدا الدور الحقيقي للمنظمة.. ويرسلون رسائل تطمينية.. ولكن رسائلهم التطمينية للصهاينة الاسرائيليين، وممارساتهم العملية تؤكد انهم لا يزالون مستمرين في مخططهم الهادف إلى تحقيق ركيزة ادانة المنظمة بالارهاب كمقدمة لتصفيتها.
وقد جاءت لحظة المحك الحقيقي عند الدعوة للمؤتمر المتعدد الاطراف، الذي هو الشكل الذي كانت المنظمة والاتحاد السوفيتي يناديان به باعتباره الاساس الذي منه تنطلق المفاوضات الثنائية. وان المنظمة يجب ان تكون طرفا اساسيا على قدم المساواة مع الاطراف الاخرى.
ولكن المنظمة كانت مستثناة من الدعوة.. وعلى الرغم من انعقاد المؤتمر في موسكو، فإن روسيا التي ورثت الاتحاد السوفيتي في المشاركة كراعي ثان لعملية السلام، لم تدفع باتجاه حضور المنظمة كطرف اساسي، مما يوحي ان خط التصفية للمنظمة، قد يتجاوز الدوائر الامبريالية والصهيونية.
ومن يدقق في رسالة الدعوة إلى مؤتمر مدريد ورسائل التطمينات، التي ارسلت إلى الاطراف المدعوة إلى المؤتمر، يلاحظ بوضوح مخطط الابعاد للمنظمة تمهيدا لتصفية وجودها.
لقد فرضت شروط مؤتمر مدريد على الامة العربية بأسرها، وليس على الشعب الفلسطيني فقط، وبنفس درجة الاجحاف الذي يفرض فيه مجلس الامن قراراته الظالمة ضد شعب العراق الصامد الشجاع.
وحيث ان المنظمة تشكل الهوية الوطنية المستقلة للشعب الفلسطيني، النقيض التاريخي والشرعي للوجود الصهيوني على ارض فلسطين، فإن تصفية المنظمة هي تصفية لما تمثله من معنى لاستقلال وطني على طريق ازالة الكيان الصهيوني، تمهيداً لتحقيق الوحدة العربية الشاملة. وحين يصر الكيان الصهيوني على استبدال المنظمة ومشروعها بمشروع الحكم الذاتي، انما يهدف إلى تدمير السد الذي يحول بينه وبين السيطرة على الامة العربية وفرض العصر الصهيوني عليها.
اما الركيزة الثالثة.. وهي ما تحاول امريكا تحقيقها عبر المفاوضات المتعددة الاطراف، فهي تحقيق تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والانظمة العربية جميعها. بما فيها البعيدة عن ساحة الصراع، سواء دول الخليج او دول المغرب العربي. ونلاحظ في المرحلة الراهنة الحملة الشرسة، التي تقودها الولايات المتحدة ضد المقاطعة العربية للكيان الصهيوني وتغييرها وكأنها جريمة العصر.
وتحاول امريكا في مخططها التصفوي انتزاع الموافقة العربية الرسمية على استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية من عملية السلام، والتصرف على اساس انها غير موجودة ولا تمثل الشعب الفلسطيني. وتدفع امريكا باتجاه اهداف التطبيع في ظل تغييب المنظمة، ليكون الموقف العربي ليس فقط اعترافا بالصهيونية كحركة تحرر وطني للشعب اليهودي، وانما استنكارا للموقف النضالي والجهادي لمنظمة التحرير الفلسطينية وادانة لفكرة وجودها.
اما الركيزة الرابعة.. فإنها تتلخص بأن يقوم الكيان الصهيوني، ومن منطلق دوره في تكريس التجزئة في الوطن العربي، بتكريس علاقات ثنائية مع الاقطار العربية، تقوم على اساس الامن المشترك بين الكيان الصهيوني من جهة، وكل نظام عربي على حدة، من جهة اخرى. ويتكرس مفهوم الامن الاقليمي على حساب الامن القومي، وبهذا يتكرس الكيان الصهيوني سيدا وحاكما للمنطقة، ويصبح مخطط امريكا و"اسرائيل الكبرى" حقيقة واقعة. ويعتمد المخطط الصهيوني الامبريالي لتحقيق هذا الهدف عبر مسارات المفاوضات الثنائية، وخطط تكريس المصالح الاقليمية لكل طرف عربي، والخوض في تفاصيل جزئية لطبيعة العلاقات المستقبلية بين الكيان الصهيوني والقطر العربي المعني، دون اعتبار لطبيعة العلاقات والمصالح المشتركة بين الاطراف العربية.
ولقد خاضت حركتنا معركة المواجهة مع المخطط الامبريالي الصهيوني للحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية. وشكلت درعا صلبا لحمايتها في الوقت الذي اطلقت طاقاتها الجبارة لتقطيع كل خيوط العزلة التي حاولت القوى المعادية فرضها على المنظمة لتصفيتها..
لقد استطاع التعنت الصهيوني والتعسف الامريكي ان يفرضا شروط انعقاد مؤتمر مدريد تحت شعار السلام ارتكازا على قبضة الهيمنة الامريكية، التي اصبحت بعد حرب الخليج مطلقة اليد. وعلى الرغم من تظاهر امريكا بالضغط على الكيان الصهيوني في مسألة ضمانات القروض لمواجهة متطلبات الهجرة اليهودية، الا ان الصهاينة استطاعوا ان يفرضوا معظم شروطهم وان يطمسوا معظم الاسس والثوابت الفلسطينية. فالمشاركة المباشرة لمنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد، تحولت إلى شكل من الاشراف غير المباشر. كما ان تشكيلة الوفد من الخارج والداخل بما فيها القدس، وقضية القدس، وضرورة وجودها موضوعا وتمثيلا منع تحقيقها. وقد جاء خطاب الرئيس بوش خاليا من التزاماته السابقة في 6 آذار الماضي والذي ركز على مبدأ الارض مقابل السلام والحقوق السياسية للفلسطينيين. مستبدلا ذلك بعبارة فضفاضة تتحدث عن (منح الشعب الفلسطيني سيطرة ذات معنى على حياته ومصيره ويوفر قبولا باسرائيل وتحقيق امن لها). في الوقت الذي شدد فيه على ان هدف المؤتمر (ليس مجرد انهاء حالة الحرب في الشرق الاوسط واحلال حالة عدم الحرب مكانها، فهذا لا يكفي. وهذا لن يستمر. بل اننا نسعى إلى السلام، السلام الحقيقي. واعني بالسلام الحقيقي معاهدات. وامنا وعلاقات دبلوماسية وعلاقات اقتصادية، تجارة واستثمارات، تبادلا ثقافيا وحتى سياحة). وهذه كلها تطلعات صهيونية على حساب الامة العربية.
لقد فرض على الثورة الفلسطينية عبر مراحل نضالها الشاق المرير الكثير من المواقف الصعبة والصمود في الممرات الموحشة والعبور الاجباري في ممرات المجازفة التي تتطلبها طبيعة موازين القوى. والذهاب إلى مؤتمر مدريد او ما يسمى مؤتمر السلام كان ممرا اجباريا فرض على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني تماما كما فرض على الثورة الفلسطينية الخروج عسكريا من بيروت عام 1982 ومن طرابلس عام 1983 بالسفن إلى المنافي بهدف تصفية القضية الفلسطينية وطمس الهوية النضالية للشعب الفلسطيني.. ولكن.. هل استطاعت المؤامرة ان تحقق اهدافها؟.. هل استطاع الذين فرضوا الممر الاجباري على الثورة ان يذبحوها على ركبة المنافي؟.
حتما لا. لقد ثبت انه في الممرات الصعبة يتوهج الابداع الفلسطيني القادر على اجتراح المعجزات وفرض الحقائق الفلسطينية حقائق الرقم الصعب.
ليس هناك من فلسطيني يستطيع الادعاء انه ذهب إلى مؤتمر مدريد حسب شروطه وبكامل ارادته الثورية او تطبيقا للاسس التي اقرها المجلس الوطني الفلسطيني في دورته العشرين او الاسس بحدها الادنى الذي اقرها المجلس المركزي في دورته الاخيرة وخاصة ما يتعلق بوقف الاستيطان. ان المجازفة الدبلوماسية التي تخوضها منظمة التحرير الفلسطينية في العبور في الممر الاجباري في اطار الخطة الاعتراضية لمنع التصفية، وقرارها القاضي بتقليل الخسائر يتطلب موقفا واضحا وصريحا وصادقا عما يجري على ارض الواقع.
لا يختلف اثنان على شرعية حق الاختلاف حول ما يسمى مؤتمر السلام. فأكثر المتحمسين له اصيبوا بخيبة امل من التعنت الصهيوني والتعسف الامريكي. ولكن اولئك الذين صوروا الذهاب إلى مؤتمر مدريد بالمواصفات الراهنة انتصارا، انما يكذبون على انفسهم ويخدعون شعبهم. ولو قالوا بانه ضرورة حتمية اعتقدوها نتيجة ما فرضته موازين القوى الراهنة بعد جريمة حفر الباطن وبهدف تقليل الخسائر لكانوا اقرب إلى الصواب.
والذين صوروا الذهاب إلى مؤتمر مدريد بالمواصفات الراهنة انتحارا هم اقرب إلى الحقيقة اذا ما كانوا هم انفسهم اداة هذا الانتحار، واداة تكريس الخسائر، والمزيد من الخسائر واخطرها خطر انهيار سقف الوحدة الوطنية الفلسطينية، وحدة الصف الفلسطيني في مواجهة مؤامرة التصفية.
اما اصوات من نوع تلك التي تصدر عن "ملالي" ايران تحت شعارات اسلامية تذكرنا بايران جيت، وبالطعنة الغادرة التي وجهت إلى الشعب العراقي وجيشه البطل وهو يخوض معركة المواجهة مع ما يسمونه الشيطان الاكبر.. فانها اصوات ليست في مجال ابداء رأينا في هذه المرحلة.
ان الخطر الداهم الذي يواجه شعبنا في الارض المحتلة هو الاستيطان الزاحف المدعم بسيل الهجرة اليهودية. واذا كانت حتى الولايات المتحدة تعتبر الاستيطان عقبة في طريق السلام، فان اول واجبات خطوات السلام يجب ان تبدأ بوقف الاستيطان. وسواء كان الفلسطيني معارضا لانعقاد مؤتمر مدريد او موافقا عليها، فان كل الفلسطينيين يجمعهم موقف واحد، وهو رفضهم للاستيطان ولاستمراره. وهم بذلك جميعهم مطالبون بالوقوف وبشراسة في وجه هذا الخطر الداهم. ان وحدة الصف التي يتطلبها موقف الدفاع عن النفس وعن الارض وعن القضية هي التي كانت شعار جميع ابناء حركتنا وابناء شعبنا في الارض المحتلة وخارجها.
ان تجارب الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني السابقة، والتي كانت تجربة طرابلس من اسوأها، كانت تجد لها طرفا عربيا يمكن تحميله مسؤولية تعميق الخلاف. اما الآن وكل الاطراف العربية منخرطة في عملية التسوية، فان مسؤولية الاقتتال الفلسطيني ستسجل تاريخيا ضد شعبنا الذي اعترف له كل العالم بانه الشعب الذي استطاع فرض الديمقراطية في غابة البنادق.
وهنا يجب الاشارة إلى ان الطرف الوحيد القادر على تغذية وتسعير وتصعيد الشقاق الفلسطيني هو العدو الصهيوني نفسه. وما ظاهرة الصهاينة الملثمين ببعيدة عن الاذهان. وهنا يصبح شعار (وحدة الصف.. الدفاع) عن الذات معبرا عن طريق المواجهة الصحيحة. وذلك عبر صب كل الامكانيات القتالية والعسكرية ضد المستوطنات والمستوطنين والتجمعات العسكرية، بحيث يكون تصعيد الانتفاضة وتصعيد الكفاح المسلح هو التعبير لكل فلسطيني عن قناعته بالدفاع عن نفسه وعن حقوقه.
واذا كان الاستيطان الزاحف يشكل خطرا يتطلب الدفاع ووحدة الصف. فان جيش الاحتلال الصهيوني، ووجوده الغاشم على ارضنا هو الهدف الذي يجب ان يتوجه اليه الهجوم المكثف والموحد.. من كل ابناء شعبنا وحركتنا وثورتنا. فالذين يعتقدون ان مؤتمر مدريد يمكن ان يحقق انجازا لصالح الشعب الفلسطيني مطالبون بدعم موقف المفاوض الفلسطيني على الارض برفضهم للاحتلال وتصعيدهم للكفاح المسلح والانتفاضة الباسلة. وكذلك الذين يعتقدون ان المؤتمر يمكن ان يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية فانهم مطالبون بحماية هذه القضية بتصعيد نضالهم المسلح والمكثف ضد الاحتلال الصهيوني وليكن شعارهم هو جعل حياة الصهاينة المحتلين كابوسا. وتوجيه كل قدراتهم الرافضة لتكون نقمة على الاحتلال والمحتلين، فكان شعارنا الثاني (وحدة الهدف.. للهجوم) معبرا عنه بتصعيد هجومنا على الاحتلال والمحتلين.
ان المجازفة الدبلوماسية التي تخوضها منظمة التحرير الفلسطينية بتوجيهها غير المباشر للوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد ترتكز على الموقف العربي الموحد لتعزيز قدرتها على تقليل الخسائر وضمان الخروج سالمة من التجربة، او العمل على تطويرها مستقبلا بالتكامل الضروري مع تصعيد الكفاح المسلح والانتفاضة الباسلة. لقد حققت اللقاءات العربية احد الاسس التي اقرها المجلس الوطني، كضرورة للمطالبة بالشرعية العربية التي اقرتها قرارات القمة العربية، بما يضمن تحقيق الحل الشامل واستبعاد الحلول المنفردة وصفقات كامب ديفيد، الجديدة التي قد تترك الشعب الفلسطيني وحيدا في حلبة المواجهة مع العدو الصهيوني. ان ترابط المصالح القومية العربية تقتضي عودة التلاحم الفلسطيني مع كل الاطراف العربية، بحيث تصبح قضية القدس وقضية الانسحاب من جميع الاراضي العربية المحتلة وتحقيق الاهداف الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير واقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف هي محور التلاحم العربي. وسواء استمر مؤتمر مدريد او انفرط عقده، فان هذا الموقف الفلسطيني الذي تعبر عنه منظمة التحرير الفلسطينية هو اهم ثوابت حركتنا فتح. وعلينا للمحافظة على مسيرتنا النضالية ان لا تكون المجازفة الدبلوماسية على حسب مبادئنا وثوابتنا. واذا كانت الدبلوماسية تتحمل المجازفة، فان المبادئ الراسخة لا تتحملها. وعليه فان الاهداف الاستراتيجية لحركتنا يجب ان لا تهتز نتيجة الاوضاع الراهنة. فالمستقبل ليس حالة استاتيكية.
ونحن مطالبون باحداث التغييرات التي تضمن تغيير موازين القوى لصالح حركتنا وثورتنا ومنظمتنا وشعبنا وامتنا، ونحن باعتبارها طليعة الامة العربية في معركة تحرير فلسطين، اكثر الاطراف المعنية في تحقيق الظروف الاكثر مناسبة لتحقيق الانجازات. وعلى ابناء حركتنا في كل اماكن تواجدهم ان يتعاملوا مع الواقع الراهن باعتباره احد نتائج الزلازل المتتالية التي اصابت جبهتنا العالمية والعربية والفلسطينية. فالانهيار السوفيتي ونهاية الحرب الباردة لصالح امريكا وما تبع ذلك من نتائج حرب الخليج وما عاناه شعبنا تحت الاحتلال في مواجهة الاستيطان الزاحف. كل هذا يتطلب منا الاستعداد لمواجهات قد تكون اكثر صعوبة، ولكن علينا عدم التسليم تحت كل الظروف بمقومات وجودنا ووجود حركتنا التي انطلقت في ظروف اكثر صعوبة، وهي قادرة على تجاوز كل العقبات ما دام ابناؤها في حالة تلاحم وتمسك بعهد الشهداء، عهد الوفاء، عهد الاستمرار بالثورة حتى النصر.
ان المحك الرئيسي الذي ستواجهه الارادة العربية هو صمودها في موقف رفض الاستفراد الصهيوني بأي طرف من اطراف الصراع. وقد فصلت امريكا سيناريو مؤتمر ما تسميه بالسلام على اساس المسارين، بحيث يمكن تحقيق حالات الاستفراد التي تحاول جعل الدول العربية تبحث كل واحدة منها على حدة عن تحقيق امنها الاقليمي على حساب الامن القومي. وقد حاول بوش في خطابه في مؤتمر مدريد التقليل من اهمية خطورة بحث القضايا الاقليمية المتعددة الجوانب، مثل ضبط التسلح والمياه ومشاكل اللاجئين والتنمية الاقتصادية. ان بحث هذه القضايا قبل انجاز وضمان تحقيق الانسحاب الصهيوني من الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة هو تكريس لتفوق الكيان الصهيوني على العرب مجتمعين. وهو ما سيجعل قضية الشعب الفلسطيني خارج الارض المحتلة قضية لاجئين على الدول العربية استيعابهم مقابل الكيان الصهيوني للمزيد من المهاجرين اليهود. ومن هنا تأتي اهمية المزيد من التنسيق والتلاحم العربي وضرورة التمسك الجماعي بالثوابت الفلسطينية والعربية. كما ان الضرورة تقتضي توسيع دائرة بالتصدي لمحاولات التصفية التي تندرج في الانجرار نحو الاشراك الخداعية التي تنصبها الصهيونية العالمية بمساندة امريكا. ويأتي هذا التوسيع عبر تطوير العلاقات الفلسطينية العربية واعادة تمتينها مع جميع القوى والفعاليات القادرة على تحقيق الدعم لشعبنا في الارض المحتلة، ولقضيتنا النضالية في معاركها، المتعددة الاوجه. كما ان الساحة الاسلامية المناضلة، التي تنادي بتحرير فلسطين انطلاقا من روح الاسلام السمحة والمؤمنة والبعيدة عن الصفقات السرية مع الامريكان والصهاينة، هذه الساحة على امتداد العالم تشكل مصدر قوة حقيقية للثورة الفلسطينية، وهي تلتقي مع حركتنا في التمسك بروح الجهاد والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل فلسطين وفي سبيل قدس الاقداس اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، مسرى النبي محمد عليه الصلاة والسلام ومهبط المسيح عليه السلام، وعاصمة دولة فلسطين الحرة المستقلة باذنه تعالى.
لقد صمدت حركتنا وثورتنا ومنظمتنا في وجه مؤتمر مدريد ومخططات بيكر - شامير. وهي على وشك ان تدخل مرحلة جديدة مع ادارة امريكية جديدة. وكنا نعتقد ان صدمة لابد ان توجه للادارة بعدم المشاركة الفلسطينية في الجولة الثامنة، تحت شعار طلب تأجيل الدورة إلى ما بعد استلام ادارة كلينتون المسؤوليات في البيت الابيض. كما اشرنا الى ضرورة العمل على عقد مؤتمر مدريد من جديد، بهدف تجاوز الشروط المجحفة الموروثة عن مخلفات شامير - بيكر. والعمل على وضع شروط تؤكد الدور الواضح المباشر لمنظمة التحرير الفلسطينية ومشاركتها في مسيرة التسوية، بحيث يعاد النظر في تشكيل الوفد، ليمثل جميع شعبنا في الخارج والداخل بما فيها القدس. ان وضع الامور في نصابها يقتضي الدفع باتجاه ان يتحول مؤتمر مدريد إلى مؤتمر دولي بالمواصفات التي حددتها قرارات مجلسنا الوطني، الذي تلعب فيها الامم المتحدة دورا هاما، باعتبار ان الاساس، الذي يقوم عليه المؤتمر الدولي، هو قرارات الشرعية الدولية. صحيح ان امريكا لا تزال تهيمن على قرارات الامم المتحدة بشكل او بآخر. ولكن توسيع مجالات المشاركة من دول مجلس للامن دائمة العضوية. وفي مرحلة يتشكل فيها النظام العالمي الجديد، سيكون للامم المتحدة دورها المباشر في صياغة شكل النظام العالمي الامني الجديد. وهو ما يتطلب توازنا دوليا بين النظام العالمي الاقتصادي الجديد، الذي تلعب فيه منطقتنا دورا هاما بحكم موقعها وما تحتويه ارضها من مادة حيوية، هي النفط الذي يشكل عصب الحياة الاقتصادية في هذا العصر.
لقد استطاعت المنظمة ان تجتاز اخطر المنعطفات في الممر الاجباري الموحش. واستطاعت بقرارها الاخير بعدم المشاركة في الجولة الثامنة بوفدها المتكامل من ان تحدث بعض الصدمة حيث كان تقليص الوفد يعطي مدلول اللقاء غير الرسمي، كما افشلت المنظمة محاولات رابين وكسرت اسافينه الخبيثة التي حاول بها افتعال الشقاق الفلسطيني العربي والفلسطيني الفلسطيني.
ولقد بلغت ذروته اسافين رابين، يوم دفع باتجاه الاقتتال بين حركتنا وحركة حماس في قطاع غزة. وقد اطلقنا شعار "الوحدة" وتركنا ضمير الجماهير حكما ونحن نتوجه بكل طاقاتنا ضد العدو الصهيوني. وقد نجحت ارادة حركتنا في تقليل الخسائر ودفع الجميع للمواجهة مع العدو الصهيوني. وها نحن نشاهد ونحن نعبر العام السادس للانتفاضة كيف اصبحت حماس في موقع الصدام مع العدو الصهيوني بشكل يساهم في استراتيجيتنا الثورية والانتفاضية.. وهذا الموقف الجهادي من حماس هو ما يجب ان نعمل على استثماره للمزيد من التلاحم القاعدي بين ابناء فتح وابناء كل فصيل فلسطيني، مقاتل ومجابه ضد عدونا الصهيوني.
لقد فقد رابين اعصابه وهو يرى سحره ينقلب عليه. فوقع في الحفرة التي اراد ان يدفن فيها الوحدة الوطنية عبر الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني. فارتكب جريمته بابعاد 413 مناضلا فلسطينيا، وهو يعتقد ان هذه الخطوة ستعمق الشرخ داخل الصف الفلسطيني. فانقلب السحر على الساحر وتعمقت اواصر الوحدة.. وانكشف وجه رابين الارهابي البغيض للعالم، الذي يرى كل يوم كيف يصمد المبعدون قسرا من بيوتهم ووطنهم إلى اعماق الزمهرير فيستظلون بحرارة الايمان بالله والوطن. ويصرون على الصمود وهم يرددون بخشوع قوله تعالى:


بسم الله الرحمن الرحيم
"نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين (13)"
سورة الصف
صدق الله العظيم


لقد اسقطت جريمة الابعاد.. والى الابد.. مؤامرة الارهاب رابين، واسافينه المسمومة التي حاول عبرها تأجيج الصراع والاقتتال بين حركتنا المؤمنة المجاهدة.. حركة فتح.. حركة التحرير الوطني الفلسطيني التي كان لها شرف اطلاق الرصاصة الاولى وصيانة المسيرة الكفاحية المسلحة، وبين حركة المقاومة الاسلامية.. حركة حماس.. التي ولدت في جو الانتفاضة الجبارة.. واضافت فصيلا جديدا إلى جانب فصائل الثورة المقاتلة المنضوية في اطار منظمة التحرير الفلسطينية.. الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني.. ولئن كانت حركة حماس قد حاولت تمييز نفسها خارج اطار المنظمة، والقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، فان ما كان يعنينا هو الاضافة الجهادية والكفاحية التي يمكن ان يوجه اخوتنا في حماس طاقاتهم عبرها ضد العدو الصهيوني. لقد حاول الصهاينة الاصطياد في مياه مدريد العكرة، ومسيرة التسوية وما تمثله من ممر اجباري فرض على المنظمة شروط مجحفة، فبين القبول والرفض لما يسمى مسيرة السلام، كان الخلاف داخل الساحة الفلسطينية حتميا.. ولكن التعبير عن هذا الخلاف كان مختلفا. ففي الوقت الذي كان الصهاينة يدفعون باتجاه الاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني.. كانت حركتنا تطلق شعارها الوحدوي الخالد.. البنادق كل البنادق.. والحجارة كل الحجارة.. والخناجر كل الخناجر نحو العدو الصهيوني.
وجددت حركتنا شعار الوحدة في ظل الخلاف الثانوي بالتوجه نحو التناقض الرئيسي حين اعلنت شعارها "وحدة الصف.. للدفاع ووحدة الهدف للهجوم". ومع استجابة الاخوة في حماس ومع استجابة شعبنا الفلسطيني كله لهذا الشعار، كان تصعيد الكفاح الفلسطيني وتطوير اشكاله. وكان التكامل النضالي الذي جعل رابين يفقد اعصابه وهو يرى ان كل ما خطط له من مكائد وافخاخ يسقط فيها الصورة المشرقة للنضال والجهاد الفلسطيني قد امتدت إلى غزة وهذا ما دفعه إلى الاقدام على ارتكاب جريمته بعيدا عن كل الحسابات والتوقعات. فلقد وصل به غروره إلى التلميح بانه بعملية الابعاد يقدم خدمة إلى مسيرة السلام، ولمنظمة التحرير الفلسطينية التي بادر بجعل الكنيست يلغي قرار منع الاتصال بها، كما انه صرح بوقاحة ان معظم الدول العربية تؤيد ابعاد المتعصبين الاصوليين. منطلقا من معاناة بعض الانظمة من النشاطات الاصولية في بلادهم، وخاصة مصر والجزائر.
لقد اظهرت جريمة رابين الوزن والدور الحقيقي لمنظمة التحرير الفلسطينية على كافة المستويات والمجالات الفلسطينية والعربية والدولية. ولقد شاهد العالم كيف استطاعت المنظمة ان تحول الضرر الذي لحق بشعبنا وبابنائه المبعدين إلى قضية مقدسة ومعركة فاصلة بين الحق والباطل.
وكان للدور الذي لعبته حركتنا في هذه المعركة اهميته الخاصة، سواء عبر تعميق الحوار والتفاهم مع الاخوة في حماس، او عبر تفعيل تنظيمنا في كل اماكن تواجده واستنفاره لخوض المعركة بكل طاقاته امتدادا من جنوب لبنان وحتى آخر خلية تنظيمية في الولايات المتحدة.
ان محصلة المتغيرات الدولية تساعد في تعزيز مواقع منظمة التحرير الفلسطينية في العالم، بما يضمن دورها الفاعل في الساحة الدولية. فمنظمة التحرير الفلسطينية وحركتنا بكل ما تمثله من دور طليعي في النضال الفلسطيني والعربي، في استطاعتهما تعزيز هذا الدور الهام للقضية الفلسطينية. فهذه القضية التي كانت مصدر توتر دائم خلال مراحل الحرب الباردة، يمكن ان تلعب دورا هاما في تحقيق الاستقرار العالمي، في حالة وصول الشعب الفلسطيني إلى تحقيق اهدافه المرحلية المطروحة على جدول اعمال الامم المتحدة. وفي الوقت نفسه، فان هذه القضية قادرة بفعل ديناميكية حركتها الفتحوية، ان تشكل الصداع المزمن للاستقرار، وهو ما يتعارض بشكل واضح مع مصالح واهداف الولايات المتحدة. فالشعب الفلسطيني الذي كتب عليه ان يصارع الحركة الصهيونية خلال القرن العشرين بأكمله، لن يسلم الاجيال القادمة من ابناء شعب مكافح مجاهد عظيم، لحظة استسلام تحت شعار الاستقرار والاستكانة للادارة الامريكية، والاذعان للعصر الصهيوني البغيض. ان ارادة شعب فلسطين، ارادة القوم الجبارين، هي التي تقرر درجة الاستقرار في منطقة الشرق الاوسط. وهي القادرة على التصعيد الشامل، بكل انواع التصدي والكفاح، في حالة تجاهل الحقوق الثابتة، غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. وهي القادرة، ايضا، على التفاعل الكامل مع ارادة شعوب المنطقة، ومع الامة العربية، في فرض حالة السلام الفلسطيني والسلام العربي. سلام القدس، سلام الشجعان، الذين استطاعوا عبر التاريخ، ان يصهروا في حضارة الامة العربية والاسلامية كل العابرين الغزاة. وان يحافظوا على التراث الانساني العريق لهذه المنطقة، منطقة اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، التي بارك الله حولها، بارك فلسطين كلها، من النهر إلى البحر ومن البحر إلى النصر.


وانها لثورة حتى النصر